أما اليوم، و بعد غياب طال و كثرة ترحال و تجوال، عدت إلى مدينتي ﻷرتاح لبضعة أيام. تجولت خلالها في المدينة كسائحٍ ﻷرى و أسمع و أتذكر و أتفقد التماثيل والمباني وﻷعبر بعض الجسور وأسمع صدى ذكرياتي. لضحكات الذكريات في مدينتي صدى كصوت أطفالٍ لم يعرفوا اﻷحقاد. و المدن التي كان خيالها يُرى في أسفاري قد بنت اليوم مع مدينتي جسور. و لأحلام الماضي في مدينتي لُوَحٌ معلقةٌ في متحفِ المدينة لا يزورها إﻻ من هو مطّلعٌ على فن الأحلام. و في جيبي تركتُ قصاصةً من لوحتي المفضلة التي لا يفهمها سواي.
قرّرتُ زيارة المتحف ﻷتفقدها فوجدتُ أن الزمان قد طمس معالمها و شوَّه بعض الفرنجة أجمل خطوطها وتركوا لي رسالة عندها تقول "لا للجنون". حرّفوا أجمل انحناءات رسومها ليحولها إلى أشكال يفهمونها. و في نفسي كتمتُ غضبي وأنا أردد الرد الذي أريدهم أن يسمعوه "بل الجنون ما تصنعون! الجنون تغير رسم الخالق والكون لرسم إنسان لا يعرف معنى اللون"
وحين هدأتُ، قررتُ أَخذ اللوحة إلى رسَّامها الذي يسكن إحدى أعز المدن عليّ و لكنّي فوجئتُ بوجود جسرٍ بين مدننا. وفي منتصف الجسر فوجئتُ ببابٍ في حائطٍ يمنعني من العبور. فتحت الباب فوجدتُ وراءَه باباً وحائطًا، ومن ورائِه بابٌ و حائطٌ، و من ورائه بابٌ و حائطٌ، و من ورائه.. بابٌ وحائطٌ.....
و اﻵن أنا أكتب لكم هذه الجمل و أنا جالسٌ على الجسر أتأمل المدينتين، مستندًا على الحائط وبجانبي بابه المفتوحُ الذي يُرى من خلاله الباب الذي يليه و الحائط. أنظر إلى اللوحةِ و إلى قُصاصتِها التي في جيبي وأنا يائسٌ من إصلاحها ناقمٌ على من بنى بيننا هذه اﻷبواب وتلك الحوائط.